أخر الاخبار

التأمل الموجه و العلم .. العلاقة بين العقل و الجسم

في صخب وضجيج حياتنا الحديثة، دفع السعي وراء السلام الداخلي الكثيرين إلى استكشاف العلم الكامن وراء ممارسات مثل التأمل الموجه. فإلى جانب سمعته كأداة لطيفة لكنها قوية لتنمية حالة ذهنية مركزة و هادئة، يقف التأمل الموجه بمثابة تقاطع رائع بين الحكمة القديمة وعلم الأعصاب المعاصر. في هذا المقال مع بعض سنكتشف الأسس العلمية للتأمل الموجه، و الفوائد العلمية التي تؤكد تأثيره العميق على الصحة العقلية، حيث تتلاقى عوالم العقل و الجسد في رقصة متناغمة. ( خذلك نفس عميق .. و يلاّ نبدأ).

التأمل الموجه
التأمل الموجه

ما هو التأمل الموجه

التأمل الموجه أو ما يسمى أيضا التأمل الإرشادي هو ممارسة منظمة، حيث يقوم مرشد ذو خبرة بقيادة المشاركين من خلال سلسلة من الصور الذهنية أو الأحاسيس أو تمارين التنفس و اليقظة الذهنية. و التأمل الموجه في جوهره هو ممارسة تجمع بين الحكمة القديمة لليقظة الذهنية و الفن المعاصر للصور الموجهة.

و على عكس التأمل التقليدي المستقل، حيث الصمت هو اللوحة التي يرسم عليها العقل أفكاره، فإن التأمل الموجه يقدمه صوت مُرشد يوجه رحلة العقل، حيث بإمكان هذا المرشد بسلاسة توجيه الأفراد في رحلة داخل أنفسهم، تركيز انتباههم على نقاط معينة، و تسهيل حالة عميقة من الاسترخاء و اليقظة الذهنية.

تتضمن البراعة الفنية وراء صياغة التأمل الموجه الفعال مزيجًا مدروسًا من اللغة و السرعة و النية و تناسق الأفكار الموجّهة. هذا النوع من التأمل يحتضن التنوع في أشكاله، إذ يمكن أن يكون تصورًا بسيطًا لصفاء الطبيعة، أو رحلة عبر الكون، أو استكشافًا للأحاسيس الداخلية للجسم. و ما عليك أثناء قيامك بالتأمل الموجه إلا الاستسلام للتوجيه الذي يفتح الطريق إلى شعورك بالسكون الداخلي. لا تتعلق هذه الممارسة بقمع الأفكار و مقاومتها، بل بإعادة توجيهها، هي حالة أن تصبح مراقبًا لأفكارك و مشاعرك، و تسمح لها بالمرور مثل السحب في السماء دون التعلق بها أو الخوض فيها. يعمل المرشد بمثابة بوصلة، حيث يدفعك بلطف إلى اللحظة الحالية بدل أن يسقط عقلك في ثقب أسود من الأفكار اللامتناهية.

كيف أقوم بالتأمل الموجه

يرتكز التأمل الموجه على عدة أسس و عناصر مهمة لخلق تجربة تأملية عميقة و فعالة.

التوجيه اللفظي

يوفر المُرشد تعليمات شفهية، غالبًا ما تركز على التنفس أو التخيل أو الوعي بالجسم. تعمل الكلمات المنطوقة كمرساة لطيفة، توجه انتباه المشاركين و تعزز الشعور المتزايد بالوعي.

صوت واضح و هادئ

صوت المرشد عنصر حاسم، فنبرة الصوت الواضحة و الهادئة تساعد المشاركين على الاسترخاء و التعمق أكثر في التأمل. وتيرة الكلام بطيئة بإيقاعات متعمدة، وهو ما يسمح للمتأمل بعيش تجربة مريحة و متناغمة.

تحديد النية قبل التأمل الموجه

قبل الخوض في التأمل، غالبًا ما يحدد المرشدون نية. يمكن أن يتراوح هذا من تنمية السلام الداخلي إلى تعزيز التعاطف مع الذات إلى مجرد الاسترخاء و الانفصال عن زحمة الحياة. توفر النية تركيزًا موضوعيًا للتأمل، مما يوفر للمشاركين إحساسًا بالهدف.

الاسترخاء التدريجي

تشتمل العديد من جلسات التأمل الموجهة على الاسترخاء التدريجي، وتوجيه المشاركين للتخلص من التوتر من أجزاء مختلفة من الجسم. تساهم هذه العملية التدريجية في تحقيق حالة أعمق من الاسترخاء الجسدي و العقلي.

الوعي بالتنفس

أحد العناصر الشائعة في التأمل الموجه هو التركيز على الوعي بالتنفس. حيث يتم توجيه المشاركين لمراقبة الإيقاع الطبيعي لأنفاسهم العميقة، و استخدامه كنقطة محورية لتثبيت انتباههم و تنمية حالة ذهنية هادئة و مركزة.

الصور و التخيل

يتضمن التأمل الموجه في كثير من الأحيان صورًا و تخيلات حية. يتم تشجيع المشاركين على استكشاف المناظر الطبيعية الهادئة عقليًا، أو تخيل مشاهد مهدئة، أو تصور التوكيدات الإيجابية، مما يعزز التجربة الحسية لهذه الممارسة.

التحولات الواعية في التأمل الموجه

يتم تنسيق التنقلات بين مراحل التأمل المختلفة بعناية، حيث تحافظ التنقلات السلسة و المدروسة على تدفق السلس للجلسة و تناغمها، و تمنع الاضطرابات المفاجئة التي قد تتداخل مع التجربة التأملية.

التأمل الموجه و علم الأعصاب
التأمل الموجه و علم الأعصاب

ماذا يقول العلم عن التأمل الموجه

التأمل الموجه، الذي يُنظر إليه غالبًا على أنه أداة للهدوء، هو أكثر من مجرد اتجاه تأملي، فهو ممارسة مدعومة بالبحث العلمي. و فهم العلم الكامن وراء التأمل الموجه يوفر رؤية قيمة حول تأثيره المحتمل على الصحة العقلية و الجسدية. فالتغيرات الهيكلية و الوظيفية التي لوحظت في الدماغ، إلى جانب الاستجابات الفسيولوجية الناجمة عن التأمل الموجه، قدمت ولازالت تقدم دليلا مقنعًا لفاعليته العلمية.

و مع تقاطع مجالي علم الأعصاب و التأمل، لا يظهر التأمل الموجه كممارسة شخصية عميقة فحسب، بل أيضًا كموضوع يستحق الاستكشاف العلمي المستمر، و هو ما يسمح بتوسيع دوره في تعزيز الصحة العقلية و المرونة المعرفية، و تثقيف الناس حول أهمية دمجه في روتينهم اليومي.

تغير كثافة المادة الرمادية في الدماغ

تكشف دراسات التصوير العصبي للدماغ عن تغيرات هيكلية في أدمغة الأشخاص الذين يمارسون التأمل الموجه بشكل منتظم و مستمر. حيث تظهر المناطق المرتبطة بالانتباه و الذاكرة و التنظيم العاطفي، مثل قشرة الفص الجبهي و الحصين، زيادة في كثافة المادة الرمادية، و هو ما يشير إلى حدوث تغييرات عصبية محتملة مفيدة للدماغ.

انخفاظ نشاط شبكة الوضع الافتراضي (DMN)

تُظهِر شبكة DMN، وهي شبكة من مناطق الدماغ المرتبطة بأفكار شرود العقل والإحالة الذاتية، نشاطًا متغيرًا أثناء التأمل الموجه. حيث بينت الدراسات إلى أنه عندما يدخل الأفراد في حالة تأملية، يكون هناك انخفاض في نشاط DMN، مما يؤدي إلى انخفاض حالة شرود العقل و زيادة الوعي باللحظة الحالية، إضافة إلى تقليل التركيز على الأفكار الذاتية المتدفقة. لفهم أكبر حول هذا الموضوع كتبنا لك هذا المقال عن شبكة الوضع الافتراضي للدماغ DMN.

تنظيم الناقلات العصبية

تم ربط ممارسة التأمل الموجه بالتغيرات على مستوى الناقلات العصبية، بما في ذلك زيادة مستويات السيروتونين وحمض جاما أمينوبيوتيريك (GABA). حيث تلعب هذه الناقلات العصبية أدوارًا رئيسية في تنظيم الحالة المزاجية، و الاستقرار العاطفي و النفسي لديك.

التامل الموجه
التامل الموجه

ما هي فوائد التأمل الموجه

بينت الأبحاث العلمية مجموعة من التأثيرات الفسيولوجية و النفسية للتأمل الموجه، و كشفت عن مجموعة من الفوائد التي تتجاوز مجرد الشعور بحالة الاسترخاء. فيما يلي بعض من هذه الفوائد:

تقليل التوتر من خلال التأمل الموجه

التأمل الموجه وجد أن له دورا كبيرا في انخفاض مستويات التوتر و القلق، و ذلك من خلال تعزيز الاسترخاء و تنشيط الجهاز العصبي السمبثاوي في الجسم. فالتوجيه اللفظي خلال التأمل يساعد على إعادة توجيه العقل بعيدًا عن الضغوطات.

تحسين التركيز و الانتباه

ترتبط الممارسة المنتظمة للتأمل الموجه بتحسين الوظائف المعرفية، بما في ذلك تحسين التركيز و الانتباه. فقد أظهرت الدراسات العلمية أن التأمل الموجه يزيد من قدرة التركيز و التخلص من التشتت و شرود الأفكار، إضافة إلى تقليص حالة فرط التفكير التي يعاني منها الكثير في وقتنا الحالي. حيث يقوم التوجيه المنظم و المتناسق في هذه الجلسات بتوجيه الانتباه بشكل متعمد، و الانتقال من تخيل إلى آخر بتركيز عالي، مع تدريب العقل على مواصلة التركيز على اللحظة الحالية. و القدرة على الانتباه المتزايد أثناء الجلسة التأمل يمتد تأثيرها إلى ما هو أبعد من الجلسة، إلى ما بعد الجلسة، وهو ما يؤثر بشكل إيجابي على الأداء المعرفي في الأنشطة اليومية.

تقوية الذاكرة العاملة

غالبًا ما يتضمن التأمل الموجه تمارين تتطلب من المشاركين الاحتفاظ بالصور أو الأفكار الذهنية و التعامل معها. يساهم هذا الارتباط مع العقل في تحسين الذاكرة العاملة، و هو النظام المعرفي المسؤول عن الاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها بشكل مؤقت.

التنظيم العاطفي

بالإضافة إلى دور التأمل الموجه في زيادة الوعي الذاتي فإنه يشجع على الوعي بدون إصدار أحكام على الأفكار و المشاعر، فقط محاولة ملاحظتها دون التفاعل معها، و هو ما يسمح لك بالتنقل و الاستجابة للعواطف بطريقة أكثر توازناً و تكيفاً خلال تفاعلاتك اليومية مع الآخرين و مع نفسك.

المرونة المعرفية

التحويل المتعمد للانتباه في تمارين التأمل الموجه يعزز المرونة المعرفية. إذ تتعلم كيفية تكييف تركيزك العقلي من خلال الانتقال من حالة إلى إلى أخرى و من تصور إلى آخر خلال جلسة التأمل. و التحسن في المرونة المعرفية يتجسد في حياتك اليومية في تحسن مهارة حل المشكلات لديك و زيادة قدرتك على التكيف في مواقف الحياة المختلفة.

تحسين جودة النوم

الاسترخاء الناجم عن التأمل الموجه له آثار إيجابية على نوعية النوم. فالأشخاص الذين يمارسون التأمل الموجه بشكل منتظم و مستمر يتمتعون بنوم جيد و تنخفض لديهم مشاكل اضطرابات النوم خاصة الأرق.

الاتصال بين العقل و الجسم

التأمل الموجه يقوي العلاقة بين العقل و الجسم من خلال دمج عناصر الوعي بالجسم و الاسترخاء. إضافة إلى تمارين التنفس الواعي المقرون بهذا النوع من التأمل، و الذي يعتبر بمثابة المرساة خلال الجلسة، هذه المرساة تسمح لك بأن تبقى على تواصل متناغم و واعي مع جسدك و تعيش اللحظة.

الحالات العاطفية الإيجابية

الترسيخ المتعمد للمشاعر الإيجابية هو موضوع شائع في التأمل الموجه، و تشير الأبحاث إلى أن هذا التركيز المتعمد لترسيخ المشاعر الإيجابية أثناء الجلسة، جنبًا إلى جنب مع اليقظة الذهنية، يساهم في زيادة حالة الهدوء، السرور و الامتنان خلال يومك.

كختام لهذا المقال، فإنه في نسيج الحياة الحديثة الفوضوي، حيث غالبًا ما تُغرق متطلبات العالم الخارجي همسات السلام الداخلي، يظهر التأمل الموجه كمنارة تدعوك للشروع في رحلة هادئة داخل نفسك. و بعيدا عن كل الطقوس الروحية أو الفكرية يضل التأمل الموجه ممارسة ذهنية بحتة بفوائد صحية مثبتة علميا، خاصة في علم الأعصاب الحديث.
بإمكانك القيام بجلسات تأمل موجه متنوعة و لأهداف مختلفة بالمجان على قناة ثيتا Theta أين لا يصبح الهدوء مجرد لحظة عابرة، بل حالة دائمة متناغمة مع الوجود.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-